الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مهرجان كان في دورته السبعين: تقييم أوّلي بين الثقافة والفن من خلال الأفلام الروسية والإيطالية

نشر في  06 جوان 2017  (11:55)

بقلم الناقد طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان

كنا تعرضنا في مقالات سابقة للظروف الأمنية التي دارت فيها فعاليات المهرجان وما تسببت فيه من ضغط على المشاركين وتعطيل في سير العروض. الأمر تداولته كلّ الصّحف ولا فائدة في إعادة تفاصيله. 

لنكتف بالإشارة فقط إلى أن هذه الدرجة القصوى في المراقبة الأمنية تزامنت مع احتفال المهرجان ببلوغ دورته السبعين. اِحتفالية لم ترقَ إلى المستوى المنشود على الرغم من المجهودات المبذولة والأموال الطائلة المرصودة للغرض. وما زاد في هذا الفتور ضعفُ البرمجة التي لم تتعدَّ المتوسّط إلاّ نادرا.

من هنا جاء هذا الشعور العام بالخيبة لدى جلّ المتابعين. فلم تكن الظروف المحيطة بالفعاليات مجرّدَ عامل خارجيّ وإنما كشفت وهن التظاهرة مع أنها خارجة عن إرادة المسييرين. فرأى البعض في ذلك علامات نهاية تياري فريمو المندوب العام وضرورة إعادة النظر في فلسفة المهرجان أو على الأقل في تغيير الطاقم المدير له. ولكن يصعب تقدير نسبة التخمينات والتمنّيات بالمقارنة مع الواقع.

 في كل الحالات يبقى مهرجان كان، مع نقائصه، أهمّ مهرجان سينمائي عالمي يمكن أن يعطي فكرة ًعن المشهد السّينمائي العالمي على الأقل من حيث الإتجاهات البارزة. سنقتصر في هذا الجزء على حالتين، الروسية والإيطالية، لعلّنا نتعرض لحالات أخرى في مقالات لاحقة.

 كان حضور السينما الروسية لافتا هذه السّنة، وتركز بالخصوص على الأقسام الرّسمية. ثلاثة أفلام من الحجم الكبير، إثنان في المسابقة الرسمية وواحد في قسم « نظرة ما ». لفتت كلّها الأنظار، لم ينل أيّ منها الجائزة الكبرى رغم تكهنات البعض، ولكن لا تجري قرارات لجنة التحكيم بما تشتهيه رغبات الجمهور أو النقاد. ولكن تحصّل فعلا أحدها على جائزة لجنة التحكيم وهو « ناليوبوف » (غياب الحب) لأندري زفياجنتزيف.

 فيلم « ناليوبوف » للمخرج أندري زفياجنتزيف

أندري زفياجنتزيف من مواليد 1964، وكان فاز بعديد الجوائز منذ اِنطلاقته، نال الأسد الذهبي في مهرجان البندقية سنة 2003 بشريطه الأول « العودة »، ثم ساهم بشريطه الثاني سنة 2007 في المسابقة الرسمية بمهرجان كان حيث تحصّل على جائزة أفضل ممثل بشريطه « النفي »، كما نال سنة 2011 الجائزة الخاصّة للجنة التحكيم في قسم « نظرة ما » بفلمه « إلِينا » وجائزة أفضل سيناريو بشريط « الليفايثان » سنة 2014.

أوّل اِنطباع يخلّفه « ناليوبوف » في ذهن المتفرّج هو انطباع بقوّة الإخراج. وهو الاِنطباع نفسه الذي يخلّفه الفلمان الآخران، وسوف نرجع إلى ذلك في ما بعد. تدور أحداث الفلم حول رجل وزوجته على وشك الإنفصال، تنقلب حياتُهما رأسا على عقب إثر اِختفاء إبنهما الوحيد أليوشا. عمره 12 سنة، خرج ولم يرجع. لكلّ من الزوجين علاقة جانبية، وكانا يستعدّان لبيع شقّتهما الضيّقة للإلتحاق كلّ بعشيقه. 

يحاول الفلم التوسّع في الأزمة لا من حيث جانبها الإجتماعي فقط وهو هام ولكن أيضا وخاصّة من حيث بعدها الوجودي، فركّز أندري زياجنتسيف كلّ مكونات عملية الإخراج على مساءلة هذا الجانب الخفي الغامض في الذات البشرية من خلال الإشتغال على الزمن وصعوبة التواصل البشري عند الأزمات.

لا يخفي زياجنتسيف تأثره بالمخرج الإيطالي أنتونيوني، فاهتمامه تركز على تلك الفضاءات الفاصلة بين الاشياء والفراغات التي لا يمكن أن يقتصر فهمها بناء على القراءة السوسيولوجية أو التحليل السايكولوجي فقط. ولكن المهمّة صعبة ولا أعتقد أن المخرج توفّـق في ذلك فغلب على الفلم نوع من التطويل والتكرار (طول الفلم 127 دقيقة) كان أقرب للثقل منه للعمق المنشود.

 فيلم « المرأة اللطيفة » لسيرجاي لوزنيتسا

هنالك أيضا سيرجاي لوزنيتسا وهو من نفس جيل أندري زفياجنتسيف، من مواليد 1964، وكان قد شارك في مهرجان كان بفلمَيه الروائيين السابقين، « فرحتي » سنة 2010 و في « الضباب » سنة 2012. وكانا الفلمان مبرمجين في المسابقة الرسمية.

قدم هذه السّنة بـ« المرأة اللطيفة »، قصّة ليست أقلّ قوّة من « غياب الحب » بل كانت أقوى وأشدّ من حيث وقعها على المتفرج. يرافق الراوي عن قرب وبعناية امرأةً سُجن زوجها بتهمة الإرهاب، تطلب إجازةً، وتذهب بحثا عنه حتّى تمدّه ببعض المؤونة. ولكنّها تتعرض إلى جميع أنواع العرقلة والإهانة، ولا تتمكن حتّى من معرفة مكان إعتقال زوجها. لقطات طويلة جدّا تَصفُ بدقّة وإطناب كل مظاهر البؤس الإجتماعي والإنحطاط الأخلاقي من وجهة نظر إمرأة قوّية صبورة ومتحدية في صمت رهيب كل أشكال الظلم والحيف. هنا أيضا يلتجئ المخرج إلى التمطيط والتكرار المتعمّد (طول الفلم 143 دقيقة) بغاية فضح النظام السياسي. أكيد، تشريح المجتمع يؤدي بالمتفرج إلى السخط والنقمة على لاإنسانية النظام ولكن يقوده أيضا إلى نوع من القلق بسبب اختلال في المعادلة.

 

 فيلم « تسنوتا » (حياة ضيقة) للمخرج كانتيمير بالاغوف

الفلم الروسي الثالث من إنجاز شاب لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، كنّا تحدثنا عنه في مقال سابق وأثنينا على موهبته. العنوان : « تسنوتا » (حياة ضيقة ) والمخرج : كانتيمير بالاغوف. لم يتفطن مع الأسف أعضاء لجنة تحكيم « نظرة ما » إلى أهمية الفلم. المهم هو ميزة العمل بالمقارنة مع الفلمين الروسيين السابقين.

الإختيارات الفنّية لا تعتمد اللقطة الطويلة والتمطيط الزمني وهي بعيدة جدّا عن أي نوع من العناية الزائفة أو الإجتهاد المفرط. هذا لا يعني إطلاقا أن اعتماد اللقطة الطويلة أو الإشتغال على التمطيط الزمني عيب في حدّ ذاته، كما لا يعني أيضا أن استعمال المونطاج السريع واللقطة القريبة (وهو ما ذهب إليه بالاغوف) ميزة في المطلق، كل الأساليب ممكنة ومتساوية، ولكن المهم هو أن تكون لها دلالة، أي أن تُـنتج معنى وتعبّر عن شيئ ما.

فعيب الفلمين الأولين هو أن البراعة التقنية كانت أحيانا عديمة المعنى، لا تدّل إلا على مهارة المخرج. وهذا غير موجود تماما في شريط بالاغوف. والسبب هو قربه من الشخصيات وقوة قناعته بالموضوع. إذ توفّق في إيجاد النّمط المناسب تماما للتعبير عما يشعر به تجاه موضوعه، فلم يترك انطباعا في استجداء الإستحسان من أيّ كان. السؤال هو : هل بالاغوف مؤشر على تجديد في السينما الروسية أم حالة متفرّدة، هذا ما ستجيب عنه السنوات القادمة.

 كان حضور السينما الروسية هاما هذه السّنة، من خلال أعمال تفوق كلّها المتوسط، أفلام مؤلفين تختلف عمّا هو سائد الآن في روسيا منذ خوصصة الإنتاج السينمائي.

 لنتحول للسينما الإيطالية التي كانت بدورها حاضرة من خلال على الأقل أربعة أعمال لافتة للنظر. « بعد الحرب » و« فرتوناتا » و« الدخيلة » و« آ شمبرا ». أفلام مختلفة في شكلها ومضمونها ولكنها تمثل إلى حدّ ما اتجاهات في السينما الإيطالية وطيفا من المواضيع الخاصة بهذا البلد. كلها في الأقسام الموازية.

 فيلم « بعد الحرب » ( قسم « نظرة ما ») للمخرج أناريتا زمبرانو

 « بعد الحرب » ( قسم « نظرة ما ») من إخراج أناريتا زمبرانو وهي إيطالية تعيش في فرنسا، وكانت تحصّلت أفلامها القصيرة السابقة على العديد من الجوائز. اختارت موضوعا سياسيا بامتياز يتعلق بمسألة الإرهاب في إيطاليا السبعينيات وتداعياته بعد اغتيال رجل قانون سنة 2002. ماركو يعيش في فرنسا ويشتغل كأستاذ جامعي، غادر بلاده منذ عشرين سنة لتورطه في عمليات إرهابية في السبعينيات. وتمتع بقانون فرنسي سنّـهُ فرنسوا متران يمنع تسليم اللاجئين السياسيين. إثر إغتيال بياجي مستشار بيرلوسكوني سنة 2002 توجهت أصابع الإتهام نحو المناظل السابق في الألوية الحمراء، تراجع حينها ميتران في قراره وسمح بتسليم المتّهمين في جرائم الإرهاب. فقرر ماركو مغادرة التراب الفرنسي خلسة بمعية إبنته.

من هنا تبدأ المغامرة. قراءة في مسؤولية جيل من اليساريين المتطرفين من خلال نظرة إبنته وهي لا تزال مراهقة. يندرج العمل في جنس الفلم السياسي الذي عرف رواجا كبيرا في إيطاليا في السبعينات، ولكن بطريقة مختلفة تفتح المجال على قضية المسؤولية الأخلاقية تجاه الجيل الجديد. المنطلق طريف ولكن كانت النتيجة غير مرضية خاصّة وأن موضوع الإرهاب يحتلّ اليوم أهمية قصوى. لم تتوفق المخرجة لا في التعمق في رصد وقع الدرامة على شخصية البنت ولا في الإستفادة من أصداء السّياق الراهن.

فيلم « فورتوناتا » (« قسم نظرة ما ») للمخرج سيرجيو كاستليتو

أما « فورتوناتا » (« قسم نظرة ما » أيضا) فيمكن إدراجه في خطّ السينما الواقعية الجديدة الإيطالية مع إضافة مسحة نسوية. وهنا بالذات تكمن أهميته.  « فورتوناتا » من إخراج سيرجيو كاستليتو وهو ممثل ذي صيت متزوّج من مرجريت مزانتيني روائية مشهورة. وهي أيضا كاتبة السيناريو. يروي الفلم قصّة إمرأة تعيش مع إبنتها التي لا يتجاوز عمرها 8 سنوات. إمرأة تسعى إلى تحسين ظروف عيشها متحدّية جميع أنواع المصاعب والعراقيل.

هو نوع من السينما المبنية على الشخصية الرئيسية، جلبت في قضية الحال عطفَ الجمهور وعديد النقاد. خاصة أن المقاربة تذّكر كما قلنا بثقافة الواقعية الجديدة. هو فلم جديد قديم أبلت فيه جاسين ترنكا البلاء الحسن. عرفت بمساهمتها في أفلام مخرجين كبار كناني موريتي وميشال بلاسيدو وماركو توليو دجوردانو وبيرتران بونيلو. فلا غرابة أن تتحصل على جائزة التمثيل خاصّة وأن رئيسة لجنة التحكيم هي أوما تورمان الممثلة المشهورة التي شاهدناها في أفلام تارنتينو مثل بولب فيكشن وكيل بيل.

لا يمكن القول إن العمل يرقى إلى مستوى فنّي عال جدّا وإنما له رمزية ثقافية من حيث شهرة الممثل والممثلة وكاتبة السيناريو وما يحمله الفلم من ملامح السّينما الإيطالية. فهو بامتياز نوع الأفلام « الراقية » ثقافيا.

 فيلم « لِنتروزا » (الدخيلة) للمخرج ليوناردو دي كوستانزو،

 والطريف هو أن هناك فيلما إيطاليا آخر، في قسم « نصف شهر المخرجين » أي خارج المسابقة الرسمية، « لِنتروزا » (الدخيلة)، وهو من إخراج ليوناردو دي كوستانزو، فلم إجتماعي يصوّر أيضا شجاعة إمراة. جيوفانا تشتغل في مركز لرعاية الأطفال بمدينة نابولي وتتعرض بدورها إلى تحديات كبرى لها علاقة بالمافيا، تحدّيات سياسية واجتماعية وأخلاقية. وكما هو الشأن في « فورتونا » تقوم بالدور الرئيسي فنانة مشهورة، الرّاقصة رافايلا جيوردانو التي اشتغلت مع كبار مصممي الرقص ككارولين كارلسون وبينا باوش.

ولكن الفارق بين الفلمين هو أن « الدخيلة » يعالج التناقضات التي تواجهها جيوفانا بطريقة جدّ متشعبة تنبش في عمق الوعي الإنساني،  وترسم مسافة بين جيوفانا ووسطها الإجتماعي وحتى أحيانا بينها وبين وعيها السياسي، فتجاوز العمل مجرّد العرض الجيّد والمبهر ليرقى إلى مستوى الإقتراح الجريئ في مساءلة واقعٍ حيٍ ومعاصرٍ.

 

 فيلم « أشمبرا » للمخرج جوناس كربينينو

أما الفلم الثالث « أشمبرا » فهو الأهم فنيّا، وجاء أيضا في قسم « نصف شهر المخرجين ». مخرجه شاب عمره 33 سنة جوناس كربينينو يمكن مقارنته بكانتيمير بالاغوف من حيث التزامه وعلاقته بموضوعه. أولا الموضوع غارق في المجتمع، تدور أحداثه في جهة كالابريا في حي يسكنه الروم. كان جوناس كربينينو قد اشتغل عليه مند سنتين في شريط قصير عنوانه « ميديتيرانيا »، لقي استحسانا كبيرا. قرر المخرج الإقامة في هذا الحي والعيش مع متساكنيه، وربط معهم علاقات ودّ وصداقة. وأنتج فلمه على هذا الأساس، فكلّ الممثلين كانوا من سكّان الحي.

الشريط روائي ولكن طينتُه وثائقية. المادّة مستقاة من الواقع المعيش، نتابع حياة مراهق دخل والده وأخوه الأكبر إلى السّجن، يقوم بكل ما في وسعه للخروج من المراهقة لولوج الرشد ولكن حسب القيم السائدة في الحي. إن قوة العمل تكمن في هذا المزج بين نقلٍ مفصّلٍ لصورة واقع هذه الفئات المهمشة من ناحية وإضافة فنية لا تجاريها ولا تناقضها من ناحية أخرى. الصعوبة هنا: طرح مشهد البؤس الإجتماعي من داخله ومن خارجه في ذات الآن، في مسافة لا تترك أي مجال لكليشيهات النظرة الفوقية المتعالية أو المبنية على التعاطف المزيّف. الفلم تحصل على واحدة من الجوائز الثلاثة لقسم « نصف شهر المخرجين ».

 ركّـزنا في تقييمنا على بلدين، روسيا وإيطاليا، لا كجرد مستفيض للدورة ولكن كمثالين لنوعية الأفلام التي تكوّن نسيج المهرجان وكيفية توزيعها، قمنا بذلك أكثر مما بحثنا في طبيعة هذه السينماءات وهو أمر مختلف. تقييم جزئي يمكن من خلاله معرفة بعض الإتجاهات في البلدين المعنيين ولكنه يرمي بالأخصّ إلى الإطلاع على فلسفة المهرجان.